احذر.. ممنوع الاقتراباحذر عدوك مرة ....واحذر صديقك ألف مرةْ
فلربما انقلب الصديق ....فكان أعلم بالمَضرَّةهذه من الحكم السائرة عند العرب، ومن القواعد المتداولة بين العقلاء، وقد جاء هذا المعنى في القرآن الكريم، فقال الله - عز وجل -:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التغابن: 14، 15].
ومن صفات المنافقين أن الواحد منهم ذو وجهين ولسانين؛ حيث قال الله عنهم:
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]، ومصداق ذلك أيضًا الحديث المروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أحببْ حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضَك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما))؛ رواه الترمذي، وصححه الألباني، ويروى موقوفًا على علي - رضي الله عنه - وهو الأصح.
وقد قيل: الناس كالسيارات إن لم تجعل بينك وبينهم مسافة كافية، حصل الصدام.
وقال الشاعر في هذا المعنى:
فَيا عَجَبًا لمن رَبَّيْتُ طِفلًا .....أُلَقِّمُه بأَطرافِ البَنانِ
أُعَلِّمُه الرمايةَ كُلَّ يَومٍ...... فَلَمَّا اشتدَّ ساعِدهُ رَماني
وَكَم عَلَّمتُه نظمَ القوافِي .....فَلما قالَ قافيةً هجاني
أَعَلِّمه الفُتُوَّة كل وَقتٍ...... فَلَمَّا طَرَّ شارِبُه جَفاني
وقال الآخر متحسرًا:وإخوان حسبتهمُ دروعًا.... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهامًا صائباتٍ ....فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب .... فقد صدقوا ولكن عن ودادي
وقالوا قد سعينا كل سعي .... لقد صدقوا ولكن في فسادي
والسلامة في المداراة:وقد أمر الله بذلك، فقال: ﴿
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 96]، وقال - جل وعلا -: ﴿
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].
وقد كان ذلك هَدْي خير البشر - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يواجه الناس بما يكرهون، وإذا غَضِب عُرِف الغضب في وجهه، وكان لا يعيب طعامًا قط إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، وكان يداري المنافقين اتقاءً لشرهم، وعلى رأسهم عبدالله بن أُبَي فقد كان يلاطفه في الخطاب، ونهى عن قتله وهو يعلم ما في قلبه من الحقد.
وقال أبو سليمان الخطابي - رحمه الله تعالى -:ما دمت حيًّا فدارِ الناس كلهم.... فإنما أنتَ في دار المداراة
مَن يدرِ دَارَى ومَن لم يدرِ سوف يرى ....عمَّا قليلٍ نديمًا للندامات
وقال زهير في معلقته:ومَن لا يصانع في أمور كثيرة .....يُضرَّسْ بأنياب ويُوطأْ بمنسمِوالمنسم الرجل استعارة، وهو في الأصل للدواب).
وقال آخر:
أُدَارِيهمُ ما دمت حيًّا بدارهم.... وأُرضِيهم ما دمت في أرضهم أسعى
وأطلب بالإخلاص لله منهم..... خلاصًا فكانوا كيف قلبتهم أفعى
وفي لامية ابن الوردي:دارِ جارَ الدارِ إن جارَ وإن... لم تجد صبرًا فما أحلى النقل
وقال محمد بن أبي سعيد بن شرف القيرواني - رحمه الله تعالى -:
إن تلقِك الغربة في معشر.... قد جبل الطبع على بُغْضهم
ما دمت في دارِهم.... وأَرضِهم ما دمت في أرضهم
والمداراة هي بذل الدنيا من أجل الدين، أما المداهنة، فهي بذل الدين من أجل الدنيا، وبيَّن ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "الروح" الفرقَ بينهما بيانًا شافيًا، فقال:
"المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطَّف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقرَّه على باطله ويتركه على هواه؛ فالمداراة من صفات أهل الإيمان، والمداهنة من صفات أهل النفاق.
قال رجل للإمام العلامة ابن عَقِيل كما في الفنون: أسمع وصية الله - عز وجل - يقول: ﴿
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]، وأسمع الناس يعدون مَن يظهر خلاف ما يبطن منافقًا، فكيف لي بطاعة الله - تعالى - والتخلص من النفاق؟ فقال: النفاق هو إظهار الجميل وإبطان القبيح، وإضمار الشر مع إظهار الخير لإيقاع الشر، والذي تضمنته الآية إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن، اهـ.
وقد قلت في ذلك:الصحبُ في هذا الزمان بلاءُ
والقرب منهم خيبة وعناءُ
ألفاظهم معسولة وفعالهم
مسمومةٌ، بل حية رقطاءُ
صولاتهم في لهوِهم مشهودة
كلماتهم براقة جوفاءُ
هم في المجازِ وقاية وصيانة
هم في الحقيقة أرجل عرجاءُ
عند الفضائحِ أنفسٌ توَّاقة
ولدى الفضائلِ أعينٌ عمياءُ
هم في الرذائلِ همة وفصاحة
هم في المكارم ألسن خرساءُ
(رملٌ تداخل بعضه في بعضه)
فالشكل صخرٌ جلمد وبناءُ
فاحذرْ دسائسهم وكن متيقظًا
فالشهد سمٌّ والوجوه طلاءُ
مَن عاشر الحرباء مغرورًا بها
وجد الندامة للغباء جزاء
مَن نام في جحر الأفاعي آمنًا
لقي المنون ولامه الأحياءُ
مَن يلقَ ذئبًا طامعًا في رحمة
فمصيره التمزيق والأشلاءُ
فاخترْ جليسك وانتقيه تفرسًا
خيرُ الصحاب السادة النجباءُ
هم في المكارمِ قدوة وضاءة
هم في المكارهِ بلسم وشفاءُ
عند النداء سواعد مفتولة
هم في النوازل في الورى فقهاءُ
هم في الدياجي أنجمٌ براقة
عند الشدائد عدة ورخاءُ
وإذا رآك الله بين جموعِهم
لم تشقَ أبْدًا والجِنان جزاءُ