[/center]
مقدمة:المعضلة التي نواجهها اليوم بشأن الدراسات التاريخية أن أصحاب هذه الدراسات يعملون على توثيقها بشكل دقيق بما لا يتيح أي إشكالية نقدية، حتى بدت عملية ترتيب الأحداث ، وإعادة تركيبها في مجراها الصحيح هي الشغل الشاغل للكثير من الكتاب العرب ، لتبدو المسألة في ظاهرها وكأنها عملية إعادة صياغة وتوثيق لمجمل أحداث وقعت في فترات زمنية متباعدة ، ويرجع ذلك إلى مشكلات كثيرة أبرزها المنهج المتبع في عمليات قراءة التاريخ ، والذي يعالج عملياً ظاهر النصوص المنقولة ، دون افتراض لأن تكون هذه الآراء هي وجهات نظر ، بمعنى إحالة الرؤية المعاصرة إلى رؤية معدة مسبقاً موجودة في صميم النص المنقول .
من هنا كثر لدينا كتاب التاريخ والذين تعاملوا مع النص بأمانة من حيث الشكل ؛ دون القدرة على إعادة قراءة النص بما يتيح فهمه بما يتناسب ولحظة وقوعه ، وبالتالي إعادة قراءة التاريخ على أرضية الاستفادة منه فيما يستجد من حوادث معاصرة ، وليس على أرضية إعادة محاكمته ومحاكمة أشخاصه ، والذين في أسوأ أحوالهم لم يصلوا إلى الحالة الراهنة من العجز والوهن ، بل إن المنطق يقول : " إن محاكمة العاجز شهادة زور لا تبرر العجز ذاته ".
اليوم وضمن الدلائل الراهنة تبرز لدينا أهمية معركة القدس ، وهي التي شهدت فتحين متميزين في التاريخ ، أولهما الفتح العمري ، وثانيهما فتح صلاح الدين لها ، وتميز الفتحان بتجنب القتال داخل مدينة القدس ، وبقيت القراءات ناقصة لهذا العمل ، ولم تعالج الأحداث والوقائع إلا في ظاهرها العام ، دون الإحاطة ببقية الأمور ، والتي كان ينبغي قراءتها للاستفادة منها ومن دلالاتها في معركة القدس القادمة - لا محالة - في مواجهة الكيان الصهيوني .
نعم نحن نعلم الكثير من الوقائع التاريخية ، ولكن هل نستطيع الاستفادة منها ، وربما على الأقل هل لنا أن نسأل عن السر الذي يجعل الغزاة الصهاينة يغوصون في أعماق تاريخنا ، ومن ثم محاولة إحياء ما يناسبهم من إرساء عوامل الضعف بما يؤجل معركة القدس ، وبالتالي إعطاء هذا الكيان القدرة على الصمود لفترة طويلة ؟
القدس والقيمة الدينية :القيمة الدينية للقدس لدى بعض الطوائف المسيحية عبر التاريخ هي في بعض الكنائس ، بينما هي مختلفة تماماً لدى المسلمين ، فهي ليست أرض الإسراء والمعراج فقط ، بمعنى إن القيمة للمكان بحد ذاته ، إنما هي الأرض التي قدمها القرآن الكريم لتكون بركة للعالمين كما ورد في الآيات التي تحدثت عن لوط - عليه السلام - ، وكيف أنجاه الله إلى الأرض المباركة ، وبالتالي عودة على بدء فإن كل الغزاة الذين دخلوا القدس أسالوا الدماء فيها بما أفقدهم هذه الميزة بأن يكونوا أهلاً لها ، قادرين على صنع الخير للأمم من خلال امتلاكهم للمدينة ، بمعنى إن الدلالة السياسية الأولى لأهمية القدس وضرورة أن تكون بأيدي المسلمين هي دلالة قرآنية ، والحق يقال : إن القدس عندما تكون بيد المسلمين فإن المستفيد من ذلك الغرب كله ، والعالم من ورائه ، وعندما تتحول إلى أيدي الغرب ومن يسير بالفلك الغربي كالصهيونية فإن العالم كله يدفع ثمناً باهظاً ، وعلى كافة الصعد حتى تعود إلى الديار الإسلامية .
فالقدس بأهميتها الدينية والسياسية تمثل خط التوازن في الكون ، والمساس بها إنما ينعكس على العالم أجمع ، والقدس بالنسبة لبيزنطة وريثة المسيحية الأولى هي ليست سوى مكان لبعض الرهبان والزهاد ، ولم تُعط أهمية سياسية بالقدر المطلوب من إمبراطورية كانت تخوض الحرب تلو الأخرى ، وعندما قررت غزو فارس كان ذلك ليس لأجل دخول الفرس لمدينة القدس ، وإنما لأجل استرداد الصليب ، والذي كان يعني وفق العقل الروماني الوثني هو الصلة الرابطة بالإله ، لذلك رحل الرومان عن أرض فلسطين ، ونطق هرقل بالجوهرة والتي تعتبر اليوم دليلاً قاطعاً على الغرب وذلك حينما قال : " وداعاً يا سوريا وداعاً لا رجعة بعده " ، وكان هرقل على عظمته أكبر إمبراطور حكم بيزنطة ، ولم يعترض على قوله ذلك أحد ، لكن قوله أظهر أن القدس كانت بالنسبة لبيزنطة هي ذات دلالة سياسية ، وليست ذات دلالة دينية ، ولو أن القدس كانت ذات دلالة دينية لما تجرأ هرقل على وداعها معلناً أنه الوداع الذي لا رجعة بعده ، وبالتالي إن هرقل هو الذي رسم الحدود السياسية بين العرب والمسلمين ، وهو الذي أقر منذ تلك اللحظة بعودتها إلى الديار العربية التي تنتمي إليها ، ولكن هذه المرة ثمة تعديل قد حدث فأهل هذه الديار اعتنقوا الإسلام .
الفتح في عهد صلاح الدين :صلاح الدين الأيوبي يحاصر مدينة القدس الحصار الأخير لاستردادها من الصليبيين ، لكن معظم الدراسات التي نقلت وقائع الأحداث توقفت عند حدود السرد التاريخي للوقائع ، ولكن ثمة مظهر تجلى ذلك اليوم ينبغي دراسته ومقارنته بأرض الواقع ، ومحاولة فهم المتناقضات الموجودة ، والعمل على إعادة رسم صورة الغزاة آنذاك ، ومقارنتها بأرض الواقع ، حيث ثمة شبه واختلاف بين المشروع الصليبي والمشروع الصهيوني .
إن نظرة فاحصة إلى الأحداث التي سبقت فتح بيت المقدس تجعلنا نصل إلى معركة حطين ، حيث رأى المؤرخون أن بوابة الدخول لتحرير القدس كانت في معركة حطين ، والواقع أن ذلك غير دقيق بالمعنى السياسي وحتى العسكري ، لأن الذي حدث في القدس هو ليست عملية عسكرية انتهت بفتح مدينة كانت محتلة ، وإنما كانت العملية هي هزيمة الكنيسة الغربية بمجملها ، وفشل مشروعها الديني الذي رفعته تحت شعار استرداد القبر المقدس ، بل إن العالم الغربي كله انقلب من ذلك اليوم .
إذا كانت معركة اليرموك قد أخرجت الرومان من البلاد العربية ، فهي كانت ضد إمبراطورية ستصبح فيما بعد أنقاضاً ، بينما المعركة كانت مختلفة تماماً ، حيث إنها مع عالم يتشكل ويتفاعل باستمرار محدثاً المزيد من الحروب والدمار ، فكان لا بد لهذه المعركة أن تأخذ شكلاً مختلفاً ، فأي معركة وأي مدينة كانت تسقط بيد المسلمين آنذاك لم تكن تشكل صاعقة في الغرب ، لأن تلك المدن ليست لها دلالة دينية ، بينما القدس ، وبعد ما نتج عن كليرمون ، وبدء الحملات الصليبية أضحت في نظر الغرب ذات دلالة دينية واسعة ، وهكذا فإن حطين حتى لو بلغت من الناحية العسكرية ما بلغته اليرموك فإنها بحد ذاتها كما هي اليرموك ذات دلالة أقل من دلالة تحرير القدس ، وهذا بالنسبة للغرب ، وليس بالنسبة لنا نحن .
معركة الأمة :القدس هي معركة الأمة ، ولذلك فإن الإعداد لها لن يكون أمراً سهلاً ، فهي تستلزم أولاً حشد طاقات الأمة كاملة من أجلها ، وهي الصورة التي سبق أن اكتشفتها المملكة *****ينية في المنطقة ، فالصليبيون كانوا يعتقدون أن إزالة الإسلام أمر ممكن ، ولما تعذر عليهم ذلك بدؤوا يلعبون لعبة أخرى في سبيل البقاء في المنطقة ، فاكتشفوا تناقضات المنطقة ، وبدؤوا يعملون على تغذيتها ، وبالتالي نجحوا لفترات طويلة في صناعة حلفاء لهم ، حتى وصل الصليبيون إلى مرحلة اقتنعوا فيها بأنهم أصبحوا جزءاً من المنطقة ، وبالتالي إن الذي فعله صلاح الدين أولاً هو إعادة رسم المنطقة من جديد وتوحيدها تحت خطبة الخليفة العباسي من الموصل إلى حلب إلى دمشق ووصولاً إلى مصر ، وبهذه الدلالة أصبحت معركة الأمة جاهزة في وجه كيان بات محاصراً لا يجد حليفاً منقذاً له ، لذلك فإن تحرير القدس كان بحد ذاته هو مشروع الأمة ، فإن لم تقم به مجتمعة فسوف يطمع الغرب مجدداً باحتلالها ، وكان يتطلب هذا المشروع أيضاً التشديد على الطابع الديني عليه بشكل يفوق اهتمام الصليبيين بهذا الجانب ، فالصليبيون نجحوا في البقاء طوال الفترة الماضية لسبب وحيد هو عامل التجزئة ، وبالتالي إن الطابع الديني للمعركة إنما يتطلب حشداً كبيراً ، وتجميعاً للطاقات ، بانتظار ردود الفعل الغربية على تحرير القدس ، وقد حدث فعلاً أن سيّر الغرب الحملة الثالثة بعد سقوط القدس ، وحدث أيضاً أن البابا في روما مات من هول الصدمة لدى سماعه الخبر .
عبقرية صلاح الدين :عندما وقف صلاح الدين على أبواب القدس كان بمقدوره أن ينتزعها بالسيف ، لكنه توقف عند حدود حصارها والقتال على أسوارها ، وكانت الفرصة مهيأة له لأن ينتزعها بالسيف ، ولكنه أخذها سلماً ، وهنا ينبغي رؤية المفارقة ، فما رآه صلاح الدين الأيوبي هو أن الصليبيين غادروا بلادهم إلى فلسطين باعتبارها أرض القبر المقدس ، ومات منذ مئة عام مئات الآلاف من الناس على طول الطريق الممتدة من كليرمون وحتى القدس ، فما الذي جعل الناس تزحف بهذه الحشود الأسطورية ، وتخوض هذه الحروب الدموية ؟
إنه بلا شك التصعيد الديني ، والطابع الديني الذي اكتسبته الحملات الصليبية ، تجلت عبقرية صلاح الدين أنه قَبِلَ بمبدأ المفاوضات ، فسمح للرهبان بأن يأخذوا أموالهم مع حاجته لها لأنهم أصلاً اكتسبوها من المنطقة ، ولكن بالمقابل كان على الرهبان أن يتنازلوا نهائياً عن القدس ، وهكذا بعد مئة سنة باع الرهبان القبر المقدس وتنازلوا عنه مقابل المال ؟
فأين هي جثث مئات الآلاف من البشر التي ذهبت على طول طريق كليرمون ، بالتأكيد لقد باع الرهبان كل ذلك ، وحتى باعوا القبر المزعوم للمسيح - عليه السلام - مقابل المال ، وما فعله الرهبان هو إقرار من *****ين بأنْ لا حق لهم في القدس ، ولكنهم أخذوا المال فوق هذا الإقرار، ويسأل البعض أين تكمن عبقرية صلاح الدين ، ونجيب إنه بهذا الفعل نجح بتجفيف المنابع الدينية للحملات الصليبية ، وأصبح الغرب منذ ذلك التاريخ يطرح نفسه مستعمراً للقدس وليس صاحب حق ديني فيها .
لقد أراد صلاح الدين أن لا يكون في القدس أي أساس مادي لصراع ديني مع المسيحية في المستقبل ، ونجح في ذلك